فصل: تفسير الآيات (57- 62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يتحدث اللّه سبحانه عن نفسه في مقام الانتقام والتدمير إظهارا لغضبه ولجبروته في هذا المقام. فيقول:
{فَلَمَّا آسَفُونا}.. أي أغضبونا أشد الغضب.
{انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}.. يعني فرعون وملأه وجنده.
وهم الذين غرقوا على إثر موسى وقومه وجعلهم اللّه سلفا يتبعه كل خلف ظالم {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} الذين يجيئون بعدهم، ويعرفون قصتهم، فيعتبرون.
وهكذا تلتقي هذه الحلقة من قصة موسى- عليه السلام- بالحلقة المشابهة لها من قصة العرب في مواجهة رسولهم الكريم. فتثبت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه وتحذر المشركين المعترضين، وتنذرهم مصيرا كمصير الأولين.
وتلتقي الحقيقة في عرض القصة، بالتناسق بين الحلقة المعروضة والحال القائمة والغاية من إيرادها في هذه الحال القائمة. وتصبح القصة بهذا أداة للتربية في المنهج الإلهي الحكيم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الذهب:
وهذه الكلمة في القرآن- على سبيل الإِجمال- على نوعين.
إِمَّا بمعنى الذَّهب الذي هو قرين الفضَّة {فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ}.
{وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}.
وإِمَّا بمعنى المُضِى، ويرد في القرآن على عشرين وجهًا.
فى حقِّ المنافقين: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
وقال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، وقال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}.
{فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ} {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ} {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا} {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} {اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هذا} {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} أَى لتفوزوا بشىءٍ من المهر أَو غير ذلك ممَّا أَعطيتموهنَّ.
والذهاب يستعمل في الأَعيان وفى المعانى كما تراه في الآيات المذكورة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قال إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)}.
أخبر أَنَّ إبراهيمَ لمَّا دعا أباه وقومَه إلى الله وتوحيده أَبَوْا إِلاَّ تكذيبَه، فتبرّأَ منهم بأجمعِهم، وجعلَ اللَّهُ كلمةَ التوحيدِ باقيةً في عَقِبِه وقومه.
{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَءَابَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أَرْخَيْنَا عنانَ إمهالهم مدةً، ثم كان أمرُهم أَنْ انتصرْنا منهم، ودَمّرْناهم أجْمعين.
قوله جلّ ذكره: {وَقالواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
إمّا أبي مسعود الثقفي أو أبي جهل، وهذا أيضًا من فرْط جهلهم.
{أَهُمْ يَقْسَمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
أَهم يَقْسمون- يا محمد- رحمةَ ربك في التخصيص بالنبوة؟ أيكون اختيارُ اللَّهِ- سبحانه- عَلَى مقتضى هواهم؟ بئس ما يحكمون!
{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم} فلم نجعل القسمة في الحياة الدنيا لهم.. فكيف نجعل قسمة النبوة إلى هؤلاء؟!.
والإشارة من هذا: أن الحقَّ- سبحانه- لم يجعل قسمةَ السعادةِ والشقاوةِ إلى أحد، وإنما المردودُ مَنْ ردّه بحكمه وقضائه وقَدَرِه، والمقبولُ- من جملة عباده- مَنْ أراده وقَبِلَه- لا لِعلَّةٍ أَو سبب، وليس الردُّ أوالقبولُ لأمرِ مُكتَسب.
ثمَّ إنه قَسَمَ لِبعْضِ عِباده النعمةَ والغنى، وللبعض القلّةَ والفقر، وجعل لكلِّ واحدٍ منهم سكنًا يسكنون إليه يستقلون به؛ فللأغنياء وجودُ الإنعام وجزيل الأقسام.. فشكروا واستبشروا، وللفقراء شهودُ المُنْعم القَسَّام.. فَحَمدوا وافتخروا. الأغنياءُ وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا، والفقراء سمعوا قوله: {نحن} فاشتغلوا.
وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «اما ترضون أن يرجع الناس بالغنى؛ وأنتم ترجعون بالنبي إلى أَهليكم».
{لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا}: لو كانت المقاديرُ متساويةً لَتَعَطَّلت المعايشُ، ولَبَقِيَ كلٌّ عندَ حاله؛ فجعل بعضَهُم مخصوصين بالرّفَه والمال، وآخرين مخصوصين من جهته بأجرته فيَصْلُحُ بذلك أمرُ الغنيِّ والفقير جميعًا.
{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)}.
معنى الآية أنه ليس للدنيا عندنا خطر؛ فالذي يبقى عنَّا لو صَبَبْنَا عليه الدنيا بحذافيرها لم يكن ذلك جبرانًا لمصيبته. ولولا فتنة قلوب المؤمنين لجعلنا لبيوتهم سُقُفًا من فضة ومعارجَ من فضة، وكذلك ما يكون شبيهًا بهذا.
ولو فعلنا.. لم يكن لِمَا أعطيناه خَطَرٌ؛ لأنَّ الدنيا بأَسْرِها ليس لها عندنا خطر.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)}.
مَنْ لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللَّهِ فحاد عن ذكره، وأَخلدَ إلى الخواطر الردَّية فيَّضَ اللَّهُ له مَنْ يَشْغَلُه عن الله- وهذا جَزاءُ مَنْ تَرَك الأدبَ في الخلوة. وإذا اشتغل العبدُ في خلوته بربِّه.. فلو تعرَّض له مَنْ يشغله عن ربه صَرَفه الحق عنه بأَي وجْهٍ كان، وصَرَفَ دواعيه عن مفتاحته بمَا يشغله عن الله.
ويقال: أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ؛ والعبدُ إذا لم يَعْرِفْ خَطَرَ فراغ قلبه، واتَّبَعَ شهوته، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه بقي في يد هواه أسيرًا لا يكاد يتخَلّصُ عنه إلا بعد مُدَّة.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
الذي سوّلت له نَفْسُه أمرًا يَتَوَهَّمُ أنه على صواب، ثم يحمل صاحبَه على موافقته في باطله، ويدّعي أَنه على حقِّ. وهو بهذا يَضُر بِنَفْسِه ويضر بغيره. ثم إذا ما انكشف- غدًا- الغطاء تبيَّن صاحبُه خيانَته، ونَدِمَ على صُحْبَتِه، ويقال: {يَا وَيْلَتَى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلًا} [الفرقان: 28] و{يَالَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ}. ولكنَّ هذه الندامةَ لا تنفعُ حينئذٍ؛ لأنّ الوقتَ يكونُ قد فات، لهذا قال تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ في الْعّّذَابِ مُشْتَرِكُونَ}.
قوله جلّ ذكره: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى العُمْىَ وَمَن كَانَ في ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
هذا الاستفهام فيه معنى النفي؛ أي أنه ليس يمكنُكَ هدايةَ مَنْ سَدَدْنا بصيرته، ولبَّسْنا عليه رُشْدَه، ومَنْ صَببْنا في مسامع فَهمه رصاصَ الشقاء والحرمان، فكيف يمكنك إسْمَاعه؟!
قوله جلّ ذكره {فَإِمنَّا نَذَْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}.
يعني: إنْ انفضى أَجَلُكَ ولم يتفق لكَ شهودُ ما نتوّعَدُهم به فلا تتوَهَّمْ أَنَّ صِدْقَ كلامنا يشوبه مَيْنٌ، فإنّ ما أَخبرناك عنه- لا محالة- سيكون.
قوله جلّ ذكره: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ}.
أَثبتَهُ عَلَى حدِّ الخوفِ والرجاء، ووقَفَهُ عَلَى وصفِ التجويز لاستبداده- سبحانه بعلم الغيب. والمقصود كذلك أن يكونَ كلُّ أحد بالنسبة لأمر الله من جملة نظارة التقدير- فاللَّهُ يفعل ما يريد.
قوله جلّ ذكره: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِسمٍ}.
اجتهِدْ من غير تقصير وتوكَّلْ على اللَّهِ من غير فُتور، وِقفْ حيثما أُمِرْتَ، وثِقْ بأنك على صِراطٍ مستقيم.
قوله جلّ ذكره: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ}.
أي إنَّ هذا القرآن لَذِكْرٌ لك؛ أي شرفٌ لك، وحُسْنُ صيتٍ، واستحقاقُ منزلةٍ.
قوله جلّ ذكره: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ}.
حَشَرَ أرواحَ الأنبياءِ- عليهم السلام- ليلةَ الإسراء، وقيل له- صلى الله عليه وسلم: «سَلْهم: هل أَمَرْنا أحدًا بعبادة غيرنا؟ فلم يَشُكّ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل».
ويقال: الخطابُ له، ولمرادُ به غيره.. فَمَنْ يرتاب في ذلك؟ ويقال: المراد منه سَلْ أقوامهم، لكي إذا قالوا إن الله لم يمر بذلك كان هذا أبلغ في إبرام الحجة عليهم.
قوله جلّ ذكره: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ}.
كرَّر قصةَ موسَى غيرَ مرةٍ في القرآن، وأعادَها هنا مجملةً؛ أرسلناه بدلائلنا، أرسلناه بحجةٍ ظاهرةٍ قاهرةٍ، أرسلناه بالمعجزات إلى فرعون وقومه من القبط، فقوبل بالهزء والضحك والتكذيب. ومع أنَّ اللَّهَ سبحانه لم يُجْرِ عليه من البيِّنات شيئًا إلا كان أوضحَ مما قبله إلا أنهم لم يقابلوه إلا بجفاءٍ أَوْحَشَ مما قبله. فلمَّا عضَّهم الأمرُ قالوا: يا أيها الساحرُ، أدْعُ لنا ربَّك ليكشف عنَّا البليَّةَ لنؤمِنَ بك، فدعا موسى فكشف اللَّهُ عنهم، فعادوا إلى كفرهم، ونقضوا عَهْدَهُم.
قوله جلّ ذكره: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ في قَّوْمِهِ قال يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِىِ أَفَلاَ تُبْصِرونَ}.
تعزَّزَ بمُلْكَ مصر، وجَرى النيل بأمره! وكان في ذلك هلاكه؛ ليُعْلَمَ أَنَّ مَنْ تعزَّزَ بشيء من دون الله فحتفُه وهلاكُه في ذلك الشيء.
قوله جلّ ذكره: {أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ}.
استصغر موسى وحديثه، وعابَه بالفقر.. فَسَلَّطه اللَّهُ عليه، وكان هلاكه بيديه، فما استصغر أحدُ أحدًا إلا سَلَّطه اللَّهُ عليه.
قوله جلّ ذكره: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
أطاعوه طاعةَ الرهبة، وطاعة''ُ الرهبةِ لا تكون مخلصةً، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرت عن الرغبة.
قوله جلّ ذكره: {فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}.
{ءَاسَفُونَا} أغضبونا، وإنما أراد أغضبوا أولياءَنا، فانتقمنا منهم. وهذا له اصل في باب الجَمْع؛ حيث أضاف إيسافَهم لأوليائه إلى نَفْسِه وفي الخبر: أنه يقول: «مَرِضْتُ فلم تَعُدْني».
وقال في قصة إبراهيم عليه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27].
وقال في قصة نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. اهـ.

.تفسير الآيات (57- 62):

قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
قد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلًا لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلًا لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا: {ولما ضرب ابن مريم} أي ضربه ضارب منهم {مثلًا} لآلهتهم {إذا قومك} أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه {منه} أي ذلك المثل {يصدون} أي يضجون ويعلون أصواتهم سرورًا بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض، فيعرضون به عن إجابة دعائك، يقال: صد عنه صدودًا: أعرض، وصد يصد ويصل: ضج- قاله في القاموس، فلذلك قال ابن الجوزي: معناهما جميعًا- أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها- يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة: يعرضون، قال ابن برجان: والكسر أعلى القراءتين- انتهى.
وذلك أن قريشًا قالوا كما مضى في الأنبياء {إنا وما نعبد في جهنم} مقتض أن يكون عيسى كذلك، وأن نستوي نحن وآلهتنا به، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا- إلى آخر ما قالوا وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في (ما) لما لا يعقل، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكيًا عنهم: {وقالوا أآلهتنا} التي نعبدها من الأصنام والملائكة {خير أم هو} أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه.
ولما اشتد التشوف إلى جوابهم، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى: {ما ضربوه} أي ما ضرب الكفار: ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازًا، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام {لك إلا جدلًا} أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان إلا في أصنامهم، ولأن الخصوص في كلامهم شائع، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه، فلم يقتدوا قط بما ألزموا به أنه لازم {بل هم قوم} أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه {خصمون} أي شديدو الخصام قادرون على اللدد، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي إمامة- رضى الله عنه- م، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ الآية».
ولما تضمن هذا أنه غير مهان، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال: {إن} أي ما {هو} أي عيسى عليه الصلاة والسلام {إلا عبد} وليس هو بإله {أنعمنا} أي بما لنا من العظمة والإحسان {عليه} أي بالنبوة والإقدار على الخوارق {وجعلناه} بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته {مثلًا} أي أمرًا عجيبًا مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعادًا لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني {لبني إسرائيل} الذين هم أعلم الناس به، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقًا بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات، وكان كلما رأى رجلًا منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره، وقال: هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان، فنال من الله الرضوان، وقال أيضًا هذا الموفق مستبصرًا في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام: مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وقال ابن برجان: خصهم- أي بني إسرائيل- بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه، ثم قال: وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته- انتهى، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلًا أنه جعل أمره واضحًا جدًا بحيث أنه يمثل به فيكون موضحًا لغيره، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة.